قال ابن حسان:كان عندنا رجل مقل، و كان له أخ مكثر وكان مفرط البخل، شديد النفح فقال له يوماً أخوه:ويحك! أنا فقير معيل، وأنت غني خفيف الظهر، لا تعينني على الزمان، و لا تواسيني ببعض مالك، و لا تتفرج لي عن شيء! و الله ما رأيت قط ولا سمعت أنحل منك! قال:ويحك! ليس الأمر كما تظن، ولا المال كما تحسب، ولا أنا كما تقول في البخل ولا في اليسر والله لو ملكت ألف ألف درهم، لوهبت لك خمسمائة ألف درهم. يا هؤلاء فرجل يهب في ضربة واحدة خمسمائة الف درهم يقال له:بخيل! وأما صاحب الثريدة البلقاء، فليس عجبي من بلقة ثريدته، وسائر ما كان يظهر على خوانه، كعجبي من شيء واحد، وكيف ضبطه وحصره وقوي عليه؛ مع كثرة أحاديثه، وصنوف مذاهبه؟ وذلك أني في كثرة ما جالسته، وفي كثرة ما كان فيه يفنن من الأحاديث، لم أره خبر أن رجلاً وهب لرجل درهماً واحداً! فقد كان يفنن في الحزم والعزم، وفي الحلم والعلم، وفي جميع المعاني، إلا ذكر الجود، فإني لم أسمع هذا الاسم منه قط: خرج هذا الباب من لسانه، كما خرج من قلبه! ويؤكد ما قلت ما حدثني به طاهر الأسير، فإنه قال: ومما يدل على أن الروم أبخل الأمم، أنك لا تجد للجود في لغتهم اسماً. يقول: إنما يسمى الناس ما يحتاجون إلى استعماله. ومع الاستغناء يسقط التكلف.
وقد زعم ناس أن مما يدل على غش الفرس، أنه ليس للنصيحة في لغتهم اسم واحد يجمع المعاني التي يقع عليها هذا الاسم. وقول القائل: نصيحة، ليس يراد به سلامة القلب؛ فقد يكون أن يكون الرجل سليم الصدر، ولم يحدث سبب من أجله يقصد إلى المشورة عليك بالذي هو أرد عليك - على حسب رأيه فيك - وجهاً لنفعك. ففي لغتهم اسم للسلامة، واسم لإرادة الخير، وحسن المشورة، وحملك بالرأي على الصواب. فللنصيحة عندهم أسماء مختلفة، إذا اجتمعت دلت على ما يدل عليه الاسم الواحد في لغة العرب. فمن قضى عليهم بالغش من هذا الوجه فقد ظلم. وحدثني إبراهيم بن عبد العزيز قال: تغديت مع راشد الأعور، فأتونا بجام فيه بيان سبخي، الذي يقال له الدراج فجعلت آخذ الواحدة فأقطع رأسها ثم أعزله، ثم أشقها باثنين من قبل بطنها، فآخذ شوكة الصلب والأضلاع فأعزلها، وأرمي بما في بطنها، وبطرف الذنب والجناح. ثم أجمعها في لقمة واحدة وآكلها. وكان راشد يأخذ البياحة، فيقطعها قطعتين، فيجعل قطعة في لقمة، لا يلقي رأساً ولا ذنباً - فصبر لي على لقم عدة. فلما بلغت المجهود منه قال: أي بني، إذا أكلت الطعام فكل خيره بشره! قال: وكان يقول: لم أنتفع بأكل التمر إلا مع الزنج وأهل أصبهان. فأما الزنجي فإنه لا يتخير، وأنا أتخير. وأما الأصبهاني فإنه يقبض القبضة، ولا يأكل من غيرها، ولا ينظر إلى ما بين يديه، حتى يفرغ من القبضة. وهذا عدل. والتخير قرفة وجور. لا جرم أن الذي يبقى من التمر لا ينتفع به العيال، إذا كان قدام من يتخير. وكان يقول: ليس من الأدب أن تجول يدك في الطبق، وإنما، هو تمر وما أصاب. وزعم سري بن مكرم، وهو ابن أخي موسى بن جناح، قال: كان موسى يأمرنا ألا نأكل ما دام أحد منا مشغولاً بشرب الماء وطلبه. فلما رآنا لا نطاوعه دعا ليلة بالماء، ثم خط بإصبعه خطاً في أرزة كانت بين أيدينا، فقال: هذا نصيبي، لا تعرضوا له حتى أنتفع بشرب الماء! وأحاديثه في صدر هذا الكتاب. وهذا منها. وقال المكي لبعض من كان يتعشى ويفطر عند الباسياني: ويحكم! كيف تسيغون طعامه، وأنتم تسمعونه يقول: "إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً". ثم ترونه لا يقرؤها إلا وأنتم على العشاء، ولا يقرأ غير هذه الآية. أنتم والله ضد الذي قال:
قال: فمتى تعجب أعجب من خمسين رجلاً من العرب، فيهم أبو رافع الكلابي، وهو شاعر ندى، يفطرون عند أبي عثمان الأعور. فإفطاري من طعام نصراني أشد من إفطاري من طعام مسلم يقرأ القرآن ويقول الحق.
وحدثني أبو المنجوف السدوسي قال: كنت مع أبي ومعنا شيخ من موالي الحي. فمررنا بناطور على نهر الأبلة، ونحن تعبون. فجلسنا إليه. فلم يلبث أن جاءنا بطبق عليه رطب سكر وجيسوان أسود، فوضعه بين أيدينا. فأكل الشيخ الذي كان معنا. فلما رأيت أبي لا يأكل لم آكل، وبي إلى ذلك حاجة. فأقبل الناطور على أبي فقال: لم لا تأكل؟ قال: والله إني لأشتهيه. ولكن لا أظن صاحب الأرض أباح لك طعام الناس من الغريب. فلو جئتنا بشيء من السهريز والبرني لأكلنا. فقال مولانا، وهو شيخ كبير السن: ولكني أنا لم أنظر في شيء من هذا قط. قال المكي: دخل إسماعيل بن غزوان إلى بعض المساجد يصلي. فوجد الصف تاماً، فلم يستطع أن يقوم وحده. فجذب ثوب شيخ في الصف ليتأخر فيقوم معه. فلما تأخر الشيخ ورأى الفرج، تقدم فقام في موضع الشيخ، وترك الشيخ قائماً خلفه ينظر في قفاه، ويدعو الله عليه. وكان ثمامة يحتشم أن يقعد على خوانه من لا يأنس به. ومن رأيه أن يأكل بعض غلمانه معه. فحبس قاسم التمار يوماً على غدائه بعض من يحتشمه. فاحتمل ذلك ثمامة في نفسه. ثم عاد بعد ذلك إلى مثلها، ففعل ذلك مراراً، حتى ضج ثمامة واستفرغ صبره. فأقبل عليه فقال: ما يدعوك إلى هذا؟ لو أردتم لكان لساني مطلقاً، وكان رسولي يؤدي عني. فلم تحبس على طعامي من لا آنس به؟ قال: إنما أريد أن اسخيك، فأنفي عنك التبخيل وسوء الظن. فلما أن كان بعد ذلك، أراد بعضهم الانصراف، قال له قاسم: أين تريد؟ قال: قد تحرك بطني فأريد المنزل. قال: فلم لا تتوضأ هاهنا؟ فإن الكنيف خال نظيف، والغلام فارغ نشيط، وليس من أبي معن حشمة، ومنزله منزل إخوانه! فدخل الرجل فتوضأ. فلما كان بعد أيام حبس آخر. فلما كان بعد ذلك حبس آخر! فاغتاظ ثمامة، وبلغ في الغيظ مبلغاً لم يكن على مثله قط. ثم قال: هذا يحبسهم على غدائي، لأن يسخيني بحبسهم، على أن يخرءوا عندي! لمه؟ لأن من لم يخرأ الناس عنده فهو بخيل على الطعام! وقد سمعتهم يقولون: فلان يكره أن يؤكل عنده. ولم أسمع أحداً قط قال: فلان يكره أن يخرأ عنده! وكان قاسم شديد الأكل، شديد الخبط، قذر المؤاكلة. وكان أسخى الناس على طعام غيره، وأبخل الناس على طعام نفسه. وكان يعمل عمل رجل لم يسمع بالحشمة ولا بالتجمل قط. فكان لا يرضى بسوء أدبه على طعام ثمامة، حتى يجر معه ابنه إبراهيم. وكان بينه وبين إبراهيم ابنه في القذر ما بينه وبين جميع العالمين! فكانا إذا تقابلا على خوان ثمامة، لم يكن لأحد على أيمانهما وشمائلهما حظ في الطيبات! فأتوه يوماً بقصعة ضخمة فيها ثريدة كهيئة الصومعة، مكللة بإكليل من عراق، بأكثر ما يكون من العراق. فأخذ قاسم الذي يستقبله، ثم أخذ يمنة، وأخذ ما بين يدي من كان بينه وبين ثمامة، حتى لم يدع إلا عرقاً قدام ثمامة. ثم مال على جانبه الأيسر، فصنع مثل ذلك الصنيع. وعارضه ابنه وحاكاه! فلما أن نظر ثمامة إلى الثريدة مكشوفة القناع، مسلوبة عارية، واللحم كله بين يديه وبين يدي ابنه إلا قطعة واحدة بين يديه، تناولها فوضعها قدام إبراهيم ابنه، ولم يدفعها. واحتسب بها في الكرامة والبر. فقال قاسم لما فرغ من غدائه: أما رأيتم إكرام ثمامة لابني؟ وكيف خصه؟ فلما حكى هذا لي، قلت: ويلك! ما أظن أن في الأرض عرقاً أشام على عيالك منه! فلما حكى هذا لي، قلت: ويلك! ما أظن أن في الأرض عرقاً أشأم على عيالك منه! هذا أحرجه الغيظ، وهذا الغيظ لا يتركه حتى يتشفى منك. فإن قدر لك على ذنب فقد والله هلكت. وإن لم يقدر أقدره لك الغيظ. وأبواب التجني كثيرة. وليس أحد إلا وفيه ما إن شئت جعلته ذنباً. فكيف وأنت ذنوب من قرنك إلى قدمك! وكان ثمامة يفطر أيام كان في أصحاب الفساطيط ناساً. فكثروا عليه، وأتوه بالرقاع والشفاعات. وفي حشوة المتكلمين أخلاق قبيحة، وفيهم على أهل الكلام وعلى أرباب الصناعات محنة عظيمة. فلما رأى ثمامة ما قد دهمه، أقبل عليهم وهم يتعشون فقال: إن الله عز وجل لا يستحيي من الحق. كلكم واجب الحق. ومن لم تجئنا شفاعته، فأكرمه كمن تقدمت شفاعته. كما أنا لو استطعنا أن نعمكم بالبر، لم يكن بعضكم أحق بذلك من بعض. فكذلك أنتم إذا أعجزنا أو بدا لنا، فليس بعضكم أحق بالحرمان من بعض، أو بالحمل عليه، أو بالاعتذار إليه، من بعض. ومتى قربتكم، وفتحت بابي لكم، وباعدت من هو أكثر منكم عدداً، وأغلقت بابي دونهم، لم يكن في إدخالي إياكم عذر لي، ولا في منع الآخرين حجة. فانصرفوا ولا تعودوا! قال أبو محمد العروضي: وقعت بين قوم عربدة، فقام المغني يحجز بينهم، وكان شيخاً معيلاً بخيلاً. فمسك رجل بحلقه فعصره، فصاح: معيشتي! معيشتي! فتبسم وتركه. وحثني ابن كريمة قال: وهبوا للكناني المغني خابية فارغة. فلما كان عند انصرافه وضعوها له على الباب. ولم يكن عنده كراء حمالها. وأدركه ما يدرك المغنين من التيه، فلم يحملها. فكان يركلها ركلة، فتدحرج وتدور بمبلغ حمية الركلة. ويقوم من ناحية كي لا يراه إنسان ويرى ما يصنع. ثم يدنو منها، ثم يركلها أخرى، فتدحرج وتدور، ويقف من ناحية. فلم يزل يفعل ذلك إلى أن بلغ بها المنزل! قالوا: كان عبد النور كاتب إبراهيم بن عبد الله بن الحسن قد استخفى بالبصرة في عبد القيس، من أمير المؤمنين أبي جعفر وعماله. وكان في غرفة قدامها جناح. وكان لا يطلع رأسه منها. فلما سكن الطلب شيئاً، وثبت عنده حسن جوار القوم، صار يجلس في الجناح، يرضى بأن يسمع الصوت ولا يرى الشخص، لما في ذلك من الأنس عند طول الوحشة. فلما طالت به الأيام، ومرت أيام السلامة، جعل في الجناح خرقاً بقدر عينه. فلما طالت الأيام، صار ينظر من شق باب كان مسموراً. ثم ما زال يفتحه الأول فالأول، إلى أن صار يخرج رأسه ويبدي وجهه. فلما لم ير شيئاً يريبه، قعد في الدهليز. فلما زاد في الأنس، جلس على باب الدار! ثم صلى معهم في مصلاهم ودخل. ثم صلى بعد ذلك وجلس. والقوم عرب. وكانوا يفيضون في الحديث، ويذكرون من الشعر الشاهد والمثل، ومن الخبر الأيام والمقامات. وهو في ذلك ساكت، إذا أقبل عليه ذات يوم فتى منهم، خرج عن أدبهم، وأغفل بعض ما راضوه به من سيرتهم، فقال له: يا شيخ إنا قوم نخوض في بعض ضروب، فربما تكلمنا بالمثلبة، وأنشدنا الهجاء. فلوا أعلمتنا ممن أنت، تجنبنا كل ما يسوءك. ولو اجتنبنا أشعار الهجاء كلها، وأخبار المثلب بأسرها، لم نأمن أن يكون ثناؤنا ومديحنا لبعض العرب مما يسوءك. فلو عرفتنا نسبك، كفيناك سماع ما يسوءك من هجاء قومك، ومن مديح عدوك. فلطمه شيخ منهم، وقال: لا أم لك! محنة كمحنة الخوارج، وتنقير كتنقير العيابين؟ولم لا تدع ما يريبك إلى مالا يريبك؟ فتسكت إلا عما توقن بأنه يسره. قال: وقال عبد النور: ثم إن موضعي نبا بي لبعض الأمر. فتحولت إلى شق بني تميم فنزلت برجل فأخذته بالثقة، وأكمنت نفسي إلى أن أعرف سبيل القوم. وكان للرجل كنيف إلى جانب داره، يشرع في طريق لا ينفذ. إلا أن من مر في ذلك الشارع رأى مسقط الغائط من خلاء ذلك الجناح. وكان صاحب الدار ضيق العيش، فاتسع بنزولي عليه. فكان القوم إذا مروا به ينظرون إلى موضع الزبل والغائط، فلا يذهب قلبي إلى شيء مما كانوا يذهبون إليه. فبينا أنا جالس ذات يوم إذا أنا بأصوات ملتفة على الباب، وإذا صاحبي ينتفي ويعتذر، وإذا الجيران قد اجتمعوا، إليه وقالوا: ما هذا الثلط الذي يسقط من جناحك، بعد أن كنا لا نرى إلا شيئاً كالبعر، من يبس الكعك؟ وهذا ثلط يعبر عن أكل غض! ولولا أنك انتجعت على بعض من تستر وتواري لأظهرته. وقد قال الأول:
ولولا أن هذا طلبة السلطان، لما توارى. فلسنا نأمن من أن يجر على الحي بلية. ولست تبالي - إذا حسنت حالك في عاجل أيامك - إلام يفضي بك الحال، وما تلقى عشيرتك.فإما أن تخرجه إلينا، وإما أن تخرجه عنا. قال عبد النور: فقلت: هذه والله القيافة، ولا قيافة بني مدلج! إنا لله! خرجت من الجنة إلى النار! وقلت: هذا وعيد. وقد اعذر من انذر. فلم أظن أن اللؤم يبلغ ما رأيت من هؤلاء، ولا ظننت أن الكرم يبلغ ما رأيت من أولئك!
|
lundi 3 février 2014
من طرائف البخلاء
Inscription à :
Publier les commentaires (Atom)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire